"حين يحدث عن تلك الأيام، يرسم خارطة لمدينة تدعى يافا. من مستشفى الكرنتينا ومبنى اذاعة الشرق الأدنى وحتى شارع السكسك والسوق، سوق الدير وشارع بسترس، وسوق الصلايمي، وسوق البلابسة واللحامين..حتى شارع جمال باشا، يسأل أين هذا الزقاق، وأين سوق كذا، وسوق كذا...

تقول له اليوم يسمى: يافت. يضحك، وذاك يسمىّ: كيدم. يضحك وهذا شارع شيشيم. يضحك ويضحك! تركها تغص بالناس، وبالحياة..."

"شعرنا بالخطر من سنة الستة وثلاثين... أعلنا الإضراب ستة أشهر،بريطانيا انتهزت الفرصة وصارت تبني مينا تل أبيب، مينا يافا للعرب يصدروا بضاعة ويستوردوا، ومينا تل أبيب لليهود ليستوردوا أسلحة، وناس يظبوهم من كل هالبلاد...لعبوا كل اللعبة واحنا مش عارفين كيف المي بتجري من تحتنا.."

(سلمان ناطور, وما نسينا)


شهادة

אבו סעיד

الاسم: صالح المصري

البلد: يافا

اللقب: أبو السعيد

الأم: مريم

الأب: مدفون في الهيلتون...


هنا يافا، يدخلها الكبار من أي باب... سيدخل إليها الآن أبو السعيد عجوزًا، لقد عاد اليوم ليرتاح بذلك من مهمته. أدخلها أيها العجوز الفذ كيفما تشاء، ومتى تشاء، فلا تصريح يؤخذ من رجال هم من أعلنوا قيام الثورة والإضراب. لقد مر الوقت مسرعا، والسنين كانت أقصر ممّا تخيلها، انه الجيل، لعلمك هو لا ينتظر أحدا..!

لم يأتِ يوم نسي فيه أبو السعيد التحدث عن رفاق دربه وأصدقائه التحرريين.. في ذلك الوقت كان الهدف والنضال واحدا ليخدما التحرر و العيش الكريم.

حين ودعتم المرفأ، اهتز بكم المركب.. لكنكم أسرعتم به خائفين. غادر جميع من غادر والقصف أخذ شوطا له ليرتاح. لم نكن عندها مدركين أن السماء آنذاك كانت ملفّعة بالسواد اثر الحصار الطويل الذي فرضته القوات البريطانية والصهيونية على أحياء مدينة يافا. اليوم فقط أوقفوا عنكم القصف، بعد ليالٍ طوال ليمكنوكم من الهرب والرحيل. كان ينزل الرصاص مطرا في سماء المدينة، ليحط ويفتك ببيوتكم. والقنابل تتدافع من فوهة المدفع تتطاير كحبات برتقال وشت بصاحبها، فتقع على بيوت من تقع وتقتل من تقتل في كل لحظة سقوط.

عندما رحلتم، لم يعد في الميدان غيرهما.. الميناء برفقة صخرة أندروميدا، ظلا وحدهما شاهدين على تشييع الرحيل...

وغابت الصخرة وغاب خلفها الميناء. فجأة هبت رياح قوية، ألقت بالمركب في عرض البحر.


מנשיה, 1949

الحي: المنشية المنكوبة بالقرب من سوق الكرمل

عدد الأفراد: 1500 يافاوي فلسطيني

الترحيل: عام 1948

ولد أبو السعيد (صالح المصري) في مدينة اللد، ثم أتت به والدته مع باقي أفراد العائلة إلى بيتهم في حي المنشية بعد ولادته بيومين. توفي والده عندما كان عمره 6 شهور، بهذا أصبحت لديه مسؤوليات كبيرة تجاه عائلته، فقد بدأ يعمل في فرن قريب من بيته في المنشية، صار يعيش من رغيف خبز واحد مقابل كل "خبزة" يخبزها.كان هذا حين بلغ صالح ربيعه الخامس فقط!

دأ أبو السعيد يشارك في اجتماعات الحزب الشيوعي حين صار عمره 10 سنوات، جاء به صديق شيوعي الى الحزب ليتعرف على الحزب،وعندها التحق صالح بالحزب الشيوعي. أصبح صالح مخلصا للحزب ومحبا له، وفهم من خلال العمل الحزبي أن هناك مؤامرات تحاك ضد الشعب الفلسطيني من قبل حكام العرب وأنهم قد باعوهم بثمن بخس. وان إسرائيل هي مشروع لخدم نظام الرأسمال في الشرق الأوسط، على شكل استعمار صهيوني الطراز. فتسمعه يردد قائلا: "إسرائيل لم ترغب في السلام أبدًا، هي لا تريد سلاما لأنها تود توسيع نفوذها والسيطرة على جميع دول الشرق الأوسط. تبغي الوصول حتى العراق ومصر أيضا".

التنقل بين أروقة المعسكرات

يقول: في 15 أيار عام 1948 خرجنا من يافا عن طريق الميناء، بعد أن وعدتنا الدول العربية بالخروج لمدة أسبوعين من البلد للقضاء على القوات الصهيونية وإنهاء الحرب. وبأنها ستقوم بترجيعنا بعد توليها المهمة مباشرة.

وصلنا إلى الحدود المصرية، تاه بنا المركب وانتشلتنا بعدها سفينة تدعى "الأميرة فوزيه" وهي سفينة مصرية. بعدها انتقلنا إلى بور سعيد ومن ثم إلى القنطرة. وضعونا في المعسكر الذي كان مصنوعا من "الشوادر"، يبدو أنهم حضّروه خصيصا من أجلنا. هناك زارنا الرئيس الشقيري والذي هو بالأصل من مدينة عكا، وطلب منا التطوع مع المناضلين لتحرير ما سلب من أرض فلسطين. كان ذلك بالنسبة لي ولأصدقائي فرصة جيدة للخروج والهرب من هذا المعسكر الذي أحضرونا اليه.

خرجنا حوالي 50 شخصا وأخذونا إلى الكلية العسكرية (الهيكستب) وهو معسكر للتدريب، تدربنا هناك لمدة شهر لنتمكن من المقاومة، مع العلم اننا لا نملك السلاح لكي نحارب به، فقد كنا نزحف على بطوننا. نقلنا بعدها إلى غزة معسكر إمداد الرجال، ومن غزة إلى بيت جبريل، مكثنا هناك شهرا ثم انتقلنا إلى بيت جالا في فندق كبير ضخم يسمى ألأوبريج. بعدها أرسلوا كل واحد منا ليتدرب في قرى مختلفة، أنا أرسلوني إلى قرية علار البصل جنوب بيت لحم. في أثناء التدريب جاءني شخصان اثنان عرفا نفسهم بأنهما خدما في الحزام ألأحمر وهو أعلى مستوى في التدريب العسكري. وطلبا مني أن أشرف على تدريبهم . قلت لهما لنرى ماذا تعرفان ففوجئت بأنهما مدربان بمستوى عال جدا حتى شعرت بأنني أنا من يحتاج إلى التدريب حقا.

عندما عدت إلى فندق ألأبريج في بيت جالا لم يكن هناك أحد، ولا أي واحد، من الرفاق. فقررت عندها الرجوع الى غزة، وكان الرجوع الى غزة صعبا جدا فقد اضطررت للسير 3 أيام متتالية على الأقدام. وكانت القوات ألمصرية على حدود "رحوبوت" في غزة.

كنت جالسا في احد الأيام في أحد المقاهي ألعب الطاولة مع إحدى الرفاق وإذا بشخص ما يربّت على كتفي ويطلب مني المجيء معه. رفضت الانصياع لأوامره وعدت لأكمل لعبة طاولة الزهر مع ألأخ مصباح خلف والد القائد الفلسطيني أبو إياد. بعد مضي دقائق معدودة دخل إلى المقهى ثلاثة عساكر سودانيون بأيديهم كرابيج، أخذوني بالقوة إلى مركز الشرطة وبدئوا بالتحقيق معي. أدركت أن الأول الذي جاء إليّ كان شرطيا سريا، وكان بانتظاري أيضا محقق مصري اسمه وحيد بيك.

سألني عن اسمي فقلت: "صالح المصري"، فقال: "عال طلعنا قرايب" ظنا منه بأن أطمئن وأعمل لصالحه. هذه أساليب مخابرات فاشلة ونحن نفهمها جيدا. كنت أعلم أنه لا يوجد لدي أقرباء في مصر. سألني الضابط إذا كنت أعرف شخصا يدعى فؤاد نصار، أجبته نعم انه قائد جبال الخليل وهو شخص وطني جدا. كان لدى فؤاد نحو 40 إلى 50 رصاصة قد دخلت جسده، أخبرني الضابط أن فؤاد قد هرب من المعتقل فماذا أعرف عن ذلك. أجبته بأني أعرف فقط أن بريطانيا حكمت على فؤاد نصار بالإعدام سابقا ولما انسحبت جاء قرار بالعفو العام عن الجميع وفؤاد واحد منهم. استفز هذا الضابط كثيرا فصرخ في وجهي مناديا خذوه إلى السجن: "سأعلمك كيف تعترف فأنت لن ترى الشمس منذ الآن".

قلت: السجن أرحم من أن أكون عميلا عندكم ومن التآمر معكم على الرفاق. عندها أدخلوني إلى السجن، سحبني السجان إلى الغرفة الأولى فخفت كثيرا عندما نظرت إلى المكان ورأيت كل الذين حولي، وهم رجال مخيفون يملكون ذقونا طويلة ومخيفة. طلبت من السجان نقلي إلى غرفة أخرى وواصلت ذلك إلى أن أعجبتني غرفة واحدة معزولة ومغلقة، كنت أستطيع أن أنام بها لوحدي وأن أشعر بالأمان. إلا أن السجان رفض أن يتركني وقال: "هذه زنزانة ولا يمكنك المكوث هنا"، وقام بنقلي إلى مكان آخر. قادني نحو غرفة يتواجد فيها الأساتذة. دخلت إلى المكان فرأيت أن هناك أشخاصا مثقفين حقا كنت التقي بهم وأراهم خلال المؤتمرات التي كان يعقدها الحزب الشيوعي في يافا. مكثت في السجن لمدة 6 شهور، وبعدها نقلنا إلى معتقل "أبو عجيلة" في سيناء، كان عددنا نحو 20 رفيقا، ويحرسننا ما يقارب 40 حارسا مصريا..عددهم فاق عددنا بمرتين.

الرفاق

كان برفقتي حسن أبو عيشة من الخليل عضو اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني، وعودة ألأشهب من الخليل وعلي عاشور من غزة وأسعد مكي من غزة وكان معي من يافا حسن أبو حلاوة ومحمد علي العش وحسن شاهين وسليم القاسم، أصله من المجدل ومن سكان يافا، وكان يشغل منصب سكرتير مؤتمر العمال العرب، ومحمد خاص من غزة الذي كان يكتب مقالات تحت عنوان "دبابيس" في جريدة "الاتحاد"، وكان معي شيخان من النقب لا اذكر اسميهما.

دخلت القوات ألإسرائيلية إلى المعتقل فدخل ثلاثة جنود يهود شيوعيون وكنت اعرف التحدث باللغة العبرية بشكل جيد، فصرخت "هتسيلو" (النجدة). عرف الجنود أننا أيضا من الحزب الشيوعي فقاموا بتحريرنا وأخبرونا عما تقوم به القوات الإسرائيلية من تخريب وحرق وتدمير للبيوت التي هَجرت أصحابها، وسرقة أراضي الفلاحين.

دعم بريطانيا ومساندتها للقوات اليهودية

عام 1947 كان لدى بريطانيا معسكرات وأسلحة وطائرات حربية، قامت من خلالها بإعطاء التدريبات العسكرية اللازمة لليهود. فقد كان لديهم 36 ألف متدرب من الحركة الصهيونية. ليس هذا فقط، بل وأعطتهم أسلحة ممتازة، بينما نحن كان لدينا "فشك فاسد" لا يصلح لشيء. لا يوجد لدينا أسلحة، ونحن غير قادرين على مجابهة ومقاومة العدو مقابل السلاح البريطاني الذي كان بحوزة اليهود. أذكر يوما كنت أعمل حارسا في ميناء يافا وكان لدي بندقية "مرتيني" أعطوني إياها لكي أتمكن من الدفاع عن نفسي، فكرت في إحدى الليالي تجريب استخدام هذا السلاح، فتحته وإذا به يضيء في وجهي، فألقيته وهربت من هذا العمل.

لقد كنت محبطا جدا، فقد فهمت وصرت مدركا أن معركتنا سوف تكون خاسرة لأنه ليس لدينا ما نحارب به. البريطانيون يمنحوننا سلاحا فاسدا، المارتيني كان لا تصوب إلى أبعد من 500 متر بينما البندقية البريطانية كانت تصوب حتى 3000 متر. كانت قنابلنا من صنع يدوي فاشل، ومن كان يضرب قنبلة من دون أن يتقن استعمالها كان يهدده احتمال أن يؤذي يده ويشوهها.

خرجنا من أبو عجيلة وقاموا بنقلنا إلى بئر السبع، وهناك وضعونا في مسجد بئر السبع، ذهبنا لفحص حقائبنا هناك فلم نجد أية ملابس لنا، عندها ذهبنا لكي نسأل الحاكم العسكري عن ذلك فأجاب بأن الملابس موجودة في معتقل عوجة الحفير. وهذه قرية تتواجد بالقرب من ايلات. ركبنا عندها في سيارة عسكرية يقودها جنود إسرائيليون وذهبنا إلى عوجة الحفير. إلا أننا عندما وصلنا ونزلنا من السيارة العسكرية فوجئنا برؤية ووجود حوالي خمسين جثة لجنود مصرين بطونهم منتفخة، وتنبعث منهم رائحة كريهة لا تطاق. قلنا للجنود بأننا لم نعد نريد الملابس، فقط نريد أن يعيدونا إلى حيث كنا.

عدنا مرة أخرى إلى المعتقل في المسجد حيث مكثنا هناك مدة ثلاث أسابيع وبعدها وضعونا في بيت دون حرس بشرط أن لا نغادر منطقة بئر السبع. ومن ثم وبعد خمسة أسابيع نقلونا إلى بلدة تسمى قطرة تتواجد بالقرب من رحوبوت، وهناك بقينا أربعة أسابيع أخرى وبعدها انتقلنا إلى معتقل يقع في هرتسليا مكثنا فيه حوالي شهرين، وجدنا هناك نفس الضباط المصري الذي كان حارسا في معتقل أبو عجيلة فنقلونا عندها إلى صرفند لمدة 6 شهور و7 أيام حتى تم الإفراج عنا ونفينا إلى مدينة الناصرة.

في ذلك الوقت كان هنالك حكم عسكري في الجليل، وكان الجميع غير قادرين على الخروج والدخول من والى البلدة إلا بتصريح من الحاكم العسكري، بعد التأكد من كل الأسباب. إلا أننا كنا ننجح بالتسلل إلى حيفا لكي نشتغل في البناء. كنا ننام في مقر جمعية العمال العرب لمدة سنة ونصف السنة. وجدت أنا وصديقي أسعد مكي غرفة صغيرة، والتي هي عبارة عن براكية كان فيها بابور يضخ الماء، سكنا فيها حوالي سنتين وسميناها "القصر الشتوي" وانضم إلينا ألأخ موسى ناصيف. كان سكرتير عام الحزب الشيوعي ميكونيس وكان عضوا في الكنيست مع القائد توفيق طوبي، فطلب من بن غوريون أن يسمح لنا بالعودة إلى مدننا وقرانا لأننا من نفس الحزب فوافق بن غوريون ظنا منه أننا مؤيدين للدولة...

ولكن بعد أن تمكنا من العودة قمنا أعلنا عدم تأييدنا للدولة العبرية عبر صحيفة الحزب بالعبرية كول هعام". ولما قرأ بن غوريون ذلك أمر بسحب الجنسية الاسرائيليه منا، واعتبرنا بذلك لاجئين سياسيين. هنا قمنا بالتوجه الى المحامي حنا نقارة "محامي الأرض" من أجل مساعدتنا في استرداد جنسيتنا فصديقي قرر السفر لكي يسافر ليتعلم في الخارج. رفع المحامي حنا نقارة دعوى لمحكمة العدل العليا ضد وزارة الداخلية، ولم يكن ذلك سهلا. لكنه نجح في اعادة هوياتنا.

العودة والاستقرار

يختتم أبو السعيد: عدت إلى يافا لأستقر هنالك من جديد، حيث توجهت إلى القاضي الشيخ حماد ليعطيني إذنا شرعيا ببيع لحم الجمال فاستجاب لطلبي وأعطاني الإذن خطيا بشرعية بيع لحم الجمال. وظلّ عليّ أن أحصل على ترخيص من البلدية، لكنها رفضت الطلب. توجهت إلى القضاء مرة أخرى، وكان ذلك صعبا جدا إلا أني فتحت في النهاية ملحمة بالقرب من ألمحكمه الشرعية وواصلت عملي هذا حتى عام 1967.

مضى وقت طويل... فقدت جميع أفراد عائلتي في عام 1948، إلى أن جاءني خبر وفاة والدتي في رسالة وصلت إلي من إخوتي عبر الصليب الأحمر الدولي. عندها فقط عرفت أن والدتي سكنت كل تلك السنين في مخيم المغازي بالقرب من خان يونس. حزنت لهذا حزنا شديدا، مع أننا لم نكن سوية. إلا أن عدم تمكني من رؤيتها والتحدث معها طوال هذا الوقت بسبب الاحتلال والاستعمار أثار انفعالي وحزني الشديدين. هكذا مضت السنين منذ العام 1948!