رُعاع فلسطيني يشعل إطار سيارات – أم احتجاج شعبي!

هذا المقال ليس عن الحرب. انه عن النضال الذي نقلل من أهميته ونسطحه بسرعة.  يتناول مقال الاحتجاج الشعبي والحاجة الماسة للحراك الشبابي ان يُحتضن وان يحتضن جيدا. يتحدث عن الحاجة ان ننظر بتمعن, نتروى ونصبر ونتتبع هذا الحراك ونرعاه كبرعم جاءنا بغتة بعد شُح طويل.

 

لن اصف ما حدث ولن أتحدث عن الحوارات المطروحة التي قرأت وتعاملت مع قضية خطف المستوطنين من خلال منظور واحد و عام وشامل إلا وهو "الخطف" خطف المستوطنين اليهود واستعمال الحدث كعذر لشن الحرب على حماس ومحوها عن الخارطة السياسية الفلسطينية. طبعا لا أعارض هذا التحليل العام ولا أحاول الادعاء ان هذا التحليل خاطئ لكن الصورة أكثر تركيبا من تحليل تعميمي مألوف. ما إنا بصدده هو إفساح المجال لقراءات أخرى مختلفة للواقع السياسي لان الصحافة الإسرائيلية أولا ومن ثمة الفلسطينية تنزلق إلى التحليل المألوف الظاهر للعين حين تتسارع الأحداث وتكتفي بالوصف. أريد ان اطرح أمامكم تحليلي السياسي للأحداث منطلقة من الحدث العام "الخطف", الحرب على غزة ومن ثمة الاشتباكات بالشوارع متمحورة بالحراك الشبابي بالداخل الفلسطيني, سآخذكم إلى المعاني التي لا تلتقطها الصحافة.

ماذا لدي لأقوله لكم عن حرب غزة ؟ خذوا!

الجواب عند محمد خضير ابن 16 الذي حرقه المستوطنون بدم بارد كرد فعل على خطف وقتل المستوطنين الذين لم تعترف حماس للحظة بقتلهم. محمد خضير الطويل, النحيل ذو النظرة العسلية الحزينة التي لم تر الكثير بعد لأنه طفل ورأت الكثير لان لا طفولة بهذا المكان. خلال ساعات قليلة تحول محمد إلى ضيف في كل بيت فلسطيني في الضفة والداخل اطل من كل موقع الكتروني, صحيفة وتناقلت اسمه كل وسائل الإعلام ملأ اسمه الحيز الإعلامي. ثم صار ابن, أخ, جار وصديق كل أم أب فلسطيني وكل شاب وصبية فلسطينيين. عرف الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع واشعلوا إطارات السيارات وقذفوا الحجارة في الداخل الفلسطيني في شعفاط, عرعرة, الطيبة, يافا, حيفا أم الفحم ما لون عينيه, شعره وماركة بنطال الجينز الذي يرتديه كان واحدا منهم, كان واحدا أخذ منهم كان واحدا كان يمكن ان يكون هم! ثم صار رمزا للتصدي لقمع الاحتلال وعنف المستوطنين اليومي بعد ان حوله بذكاء مصمم غرافيك إلى رمز سياسي نضالي إعلامي ملونا وجهه بالأحمر ليظهر بعدها على شبكات التواصل الاجتماعي ومن ثمة في مكان بالحيز.

لكن ما العلاقة بين محمد خضير وشباب\ات الطيبة, قلنسوة, عرعرة, جلجولية, أم الفحم (القائمة طويلة) في الداخل الفلسطيني؟ ما الذي جعل الشرارة تنتشر لتصبح مدا شبابيا واسعا وان كان ما زال بعد في بدايته؟ ما الذي جعل الشباب\ات في الداخل الفلسطيني يغادرون غرف نومهم المريحة, يغلقون أجهزة الحاسوب ويهجرون الفيس بوك وينطلقون للشارع؟ ما الذي اختلف؟ ما الذي فهمه هؤلاء الشباب\ات الآن عن هويتهم أو علاقتهم بالدولة اليهودية؟ لكن لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة دون التطرق إلى الأسئلة التالية من هؤلاء الشباب اولا؟ ما هي تجربتهم؟ ما هو المنظر والسياق السياسي والاجتماعي الذي عاشوا فيها؟ من أين جاءوا؟ سأجيب عن ذلك اولا بمحاولة وصف عملية تكون وعيهم القومي الذاتي من خلال السياق السياسي التاريخي اولا باختصار, ومن ثمة أقوم بربط هذه السيرورة مع دورهم, مسؤوليتهم وخروجهم للشارع.

لا أريد التطرق إلى "النكبة" لأننا نعي جيدا أبعادها الفردية والجمعية وما خلفته, ببساطة خلفت وعيا جماعيا مهزوما يشعر بالانحطاط. كما ولن أتطرق إلى عقود من التهميش ومحاولات محو وطمس الهوية, الوعي الوجود الفلسطيني عبر مشاريع صهيونية آخرها الخدمة المدنية وتجنيد المسيحيين لأنها طروحات مألوفة. عقود من القمع والتهميش الممنهج كان نتاجها وعي "ضحية", وعيا انتج أجيالا فلسطينية صامته, خائفة ومرعوبة لا ترفع رأسها أمام المؤسسة الصهيونية قمعها, سلطتها وعنجهيتها, أجيال وافقت, رضيت وقبلت فتات المؤسسة ولم تحلم بالمزيد.

لكني أريد التوقف عند أحداث أكتوبر عام 2000 لأنها كانت نقطة تحول سياسية هامة في وعي الفلسطينيين لم تكن هامة لان فلسطينيي الداخل فهموا أخيرا انهم العدو وان هناك خطا "احمرا" تجاوزوه, ان دمهم رخيص يشبه برخصه دم اخوتهم في الضفة والقطاع وانهم يشكلون تهديدا امنيا إذا وضعوا الكوفية على اكتافهم, إذا وضعوا حنظلة في أعناقهم, إذا عبروا عن تضامنهم مع إخوتهم, إذا حملوا لافتة تندد بالاحتلال! باختصار فهموا انهم فلسطينيين بنظر الدولة!

هي نقطة تحول لان مقتل 13 فلسطيني من فلسطيني الداخل سنة 2000 على يد قوات الشرطة "كَوى" من كلمة "كَي", الوعي النضالي الفلسطيني الجماعي كَيّا موجعا ومؤلما وخلق خوفا ورعبا تجاه كل ما يتعلق بالاحتجاج, التصدي الرفض. كان هدف المؤسسة الصهيونية خلق وتكرار تجربة نضالية دموية, مؤلمة وفاشلة ربما اصغر حجما من النكبة لكنها تهدف إلى تجذير وتعميق الفقدان, الخسارة والهزيمة لتشل الوعي النضالي والقدرة على الاحتجاج. رسالة المؤسسة الصهيونية كانت واضحة اصمتوا! لان ثمن الاحتجاج والتصدي باهظ, ثمنه دم وسيكون رخيصا! كل حدث وكل مواجهة عنيفة مع المؤسسة الصهيونية حتى يومنا هذا هدف وما زال يهدف إلى إضافة طبقات خوف وقمع جديدة على تلك القديمة لشل حركة الضحية, إلا وهي الفلسطيني. وهي نقطة تحول لان هذه التجربة القاسية والعنيفة ربطت ببطء, بشكل عفوي وغير ثابت بين فلسطيني الداخل والضفة والقطاع, بات القمع هو الرابط القومي الأوسع.

لكن رغم دمويتها دَكت أحداث أكتوبر أول حجر في جدار التفرقة القومية الفلسطينية الداخلية التي خلقها الاحتلال بين فلسطيني الضفة والقطاع والداخل. فَهِم فلسطينيو الداخل انهم ينتمون لذات الشعب وانه يمارس عليهم ذات القمع مع اختلاف الاستراتيجيات, الآليات ووجه الاحتلال, فهموا أخيرا ان مصيرهم واحد. ثم جاء مقتل محمد أبو خضير ليهدم ما تبقى منها بشكل تام لتذوب الحدود والتفرقة الجغرافية والتسميات, جاء موت محمد أبو خضير ليعزز ويوسع الوعي الفلسطيني الجماعي بشكل لا يثير إلا الدهشة.

مؤكد تسألون ما علاقة ذلك بالشباب\ات الذين خرجوا إلى الشوارع؟ كيف يخرج شباب تم قمعه وتهميشه وإسكاته إلى الشارع الشارع؟

مرة أخرى سأقول لكم الجواب عند محمد أبو خضير. ليس لان أسلوب موته البربري هو ما أثار جنون الشباب\ات وأخرجهم عن صمتهم. بل لأنهم استجابوا للحدث الفعلي بعفوية وسرعة ليس لأنهم رعاع بل لأن وعيهم الجماعي الذي كَوَتْه المؤسسة جيدا ابان أحداث أكتوبر فَهم واستوعب أخيرا ان ما يحدث بالضفة والقطاع لم يعد بعيدا, لا يحدث على الضفة الأخرى وان مصطلح هناك وهنا لا معنى له. ما حدث ان مصطلح هنا وهناك, اعني الضفة والداخل الفلسطيني فقد معناه ووظيفته السياسية التي حاول الاحتلال خلقها بالوعي الفلسطيني العام!

حدث أعمق من ذلك أيضا ,فهم الشباب\ات بالداخل الفلسطيني شيئا هاما, إلا وهو ان هناك علاقة نضالية سياسية وطيدة بين النضال ومعادلة الربح والخسارة بين الضفة والداخل الفلسطيني. فهموا ان الموت, مصادرة الأراضي, السلب والتهجير والقتل الذي يحدث بالداخل هو ذاته ما يحدث بالضفة وان لا مسافة بين سلب وسلب أو موت وموت. حدث أكثر من ذلك: استطاع الشباب الفلسطينيين\ات بالداخل تحويل مقتل محمد أبو خضير إلى حدث سياسي, فعل تضامني شعبي واحتجاجي ما هو إلا ترجمة فعلية لتسارع وتطور وعي قومي جماعي لا تمنعه حدود جغرافية وسياسية مثل الخط الأخضر, الحصار على غزة أو الجدار الفاصل. لكنه لم يكن فعل تضامن محايد يتخلى عن دوره ويمارس نضالا على شبكات التواصل الاجتماعية. كان فعل احتجاج ورفض كسر فيه الشباب\ات بالداخل الفلسطيني المسافة الامنة بينهم وبين القامع, المحتل و الموت, كانوا بالصف الأول للاحتجاج والرفض وكان الغضب إلى جانبهم! تعالوا لا نسلبهم هذا المساحة المضيئة التي عانوا وتعبوا ليصلوا إليها لنعرفهم بالرعاع!

غير كاف؟ فعلا غير كاف! مرة أخرى ما هي العلاقة الحقيقية بين غزة محمد خضير وبين الشباب\ات الفلسطينيين\ات في الداخل؟

قصة طويلة, بدأها كل رؤساء الحكومات اليهود, أكملها نتنياهو وساعده أبو مازن بالطبع منذ اللحظة التي خرجت حركة فتح من غزة بخطوة سياسية كارثية لتعلن سياسيا عن رام الله كمقر للدولة الفلسطينية الوهمية. الحرب المتكررة الدموية على غزة خلقت في وعي الفلسطينيين وفي وعي الكثيرين في العالم العربي ان غزة هي "المشكلة", هي بيت الداء "وكر الإرهاب" وهي سبب ويلات الشعب الفلسطيني وان على هذه المشكلة ان تحل بأي شكل. غزة مشكلة على طرف ما ان يأخذ على عاتقه ان يحلها ليريح العالم والشعب الفلسطيني من شرها. كان من الواضح من سيفعل ذلك بسرور, المؤسسة الصهيونية! فمنذ 2008 إلى يومنا هذا أخذت وما زالت تأخذ المؤسسة الصهيونية على عاتقها محق غزة "كرمز للمقاومة" مستغلة إلى ابعد الحدود الخلاف السياسي بين فتح وحماس. نجح نتنياهو ان يجعل غزة العدو لأنه اعتبرها معقل الإرهاب الديني الفلسطيني والتهديد الأول لأمن وكيان إسرائيل فحاصرها, جعل من أطفالها, نسائها رجالها وشيوخها ومرضاها وموتاها إرهابيين بنظر الرأي العام الإسرائيلي جَوَّعها وذبحها مرة تلو المرة وطار فوقها بكأس نبيذ احمر! أبو مازن لأنه وافق وتعاون بشكل تام مع هذا التقسيم الجغرافي الاجتماعي-السياسي المصطنع للشعب الفلسطيني ظاناً أنه يخدم مصالحه السياسية مساهما بذلك بخلق كتلتين اجتماعيتين سياسيتين متنافرتين ومتضادتين في جسد الشعب الفلسطيني تحاول الأولى انهاء الأخرى بدل من التمحور بمحاربة العدو المشترك, اعني الاحتلال ومؤسساته.

باتت غزة عدوة رام الله, عدوة البديل الديمقراطي واللبرالي واللاديني. حول نتنياهو غزة إلى عدوة لكل مواطن فلسطيني عادي يسكن برام الله, يود ان يشرب كاس نبيذ ليلا أو يقبل حبيبته علنا. هذا الفصل السياسي-الاجتماعي كان من نوع آخر أولا لأنه حدث بموافقة وتعاون الشق الليبرالي, الديمقراطي صاحب رصيد المقاومة التاريخية الأكبر في الوعي الفلسطيني, إلا وهو فتح. وثانيا لان, المواطن الفلسطيني في الضفة أيضا امن وصدق ان العقاب الجماعي الذي يمارسه الاحتلال على الضفة سببه حماس وأجندتها السياسية. هذه المرة حدثت ثلاث أشياء جعلت دَك هذا الفصل ممكنا, كان على محمد أبو خضير ان يموت حرقا وان يموت يافعا, ثانيا ان يموت بالضفة لتكون غزة في صدارة الاحتجاج هذه المرة تأخذ دورا فاعلا بأعلى ما يحدث بالضفة, ثالثا ان تكون غزة مرة أخرى من يدفع ثمن اختطاف وقتل المستوطنين عن كل الفلسطينيين رغم إنكار حماس مسؤوليتها عن مقتل المستوطنين حتى اللحظة. اذن وبناءا على ما ذكرته أعلاه, كان الاحتجاج الشبابي بالذات بالداخل بالبداية رد فعل مباشرة لمقتل محمد أبو خضير لكنه كان رد فعل سياسي حاسم ضد العقاب الجماعي الذي يمارس على غزة منذ 2008 ضاربا عرض بمصطلح "غزة عدوة الشعب الفلسطيني" وكاسرا الشرعية الفلسطينية الداخلية للتفرقة القومية.

ليس كافيا بعد! نعم ليس كافيا حدث شيء آخر ما العلاقة الحقيقية بين الحراك الشبابي بالداخل وغزة؟ ولم وجه الشباب الفلسطينيين وجوهم أخيرا شطر النضال الفلسطيني؟ الجواب بسيط خيانة وتبعية اليسار الصهيوني للمؤسسة الإسرائيلية القامعة.

فهم الشباب الفلسطيني بالداخل أخيرا كذب, نفاق وازدواجية اليسار الصهيوني. سئم شعاراته الفارغة التي لا تطالب بإنهاء الاحتلال بل تطالب بجعل الاحتلال محتملا. خرج اليسار الصهيوني للشارع مطالبا بإيقاف الحرب, إيقاف العنف والإبقاء على علاقات جيرة حسنة مع المواطنين الفلسطينيين بالداخل متجاهلا علاقتهم وانتمائهم القومي لبقية شعبهم بالضفة والقطاع, لم يطالب علنا بإنهاء الاحتلال وإخلاء المستوطنات. بينما كان الحراك الشبابي ينادي بإسقاط الاحتلال ومؤسساته ويعلن ان الصراع مع الدولة الصهيونية لا يتمحور بتوتر بعلاقات الجوار أو بأعمال العنف العشوائية من قبل المستوطنين بل بالاحتلال كمنظموة حكم. كان اليسار الصهيوني مشغولا يشرعنة الهجمة على غزة بحجة "الدفاع عن النفس" و"الدفاع عن أمن الدولة", تسطيح الحوار السياسي وإعطاء شرعية للإبقاء على مؤسسات الاحتلال. فهم الشباب الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني ان الاحتجاج السياسي الفلسطيني-اليهودي المشترك مع اليسار الصهيوني, ما هو إلا كذبة لأنه لا مصلحة لليسار الصهيوني بإنهاء الاحتلال بل الإبقاء عليه كجزء من منظومة ميزان القوى القومي, الردع والاحتفاظ بالامتيازات القومية في الدولة اليهودية.

لطالما كانت الشراكة مع اليسار الصهيوني مهينة ومذلة سياسيا وكان الفلسطيني فيها في الظل مقموعا مستخذيا وصامتا وكان اليهودي بالمقدمة له الولاية والسلطة كما بالواقع على مضمون واليات النضال. لم يعد الحراك الشبابي في الداخل يرغب بشراكة تقمع, تدوس وتتجاهل طموحاته القومية وتقوم بتحديد وتعريف النضال من خلال الإيديولوجية الصهيونية الاستعمارية التي رأت وما زالت ترى بالفلسطيني عدوا, تهديدا يجب السيطرة عليه.

فهم الحراك شباب الفلسطينيين بالداخل ان عليهم ان يختاروا ساحة نضال أخرى تجيب عن حاجاتهم وطموحاتهم القومية. فهموا ان لا مجال لفصل النضال الفلسطيني بالداخل عن النضال الفلسطيني بالضفة وعن النضال الفلسطيني القومي الواسع! فهموا ان عليهم ان يختاروا شراكة لا تتجاهل طموحاتهم القومية ولا تتعامل معهم كقاصرين تحت وصايتها!