[29.12.2008]

ها نحن نمضي من جديد إلى جولة أخرى من القتل والمجازر. هذه المرة من دون أبّهة ولا مواكب، بل مع حشد من الفخورين بإحصائهم للجثث. ( "لا بأس الميزان ما زال لصالحنا، فأعداد القتلى من الفلسطينيين أكبر". هكذا يطمئننا من يعلق على الأنباء في إسرائيل). ينصحنا التلفزيون الإسرائيلي بألاّ نشاهد الصور المرعبة على قناة الجزيرة. إذ لا يجدر بالإسرائيليين أن ينظروا إلى حصيلة المجازر و إلى صور الجرحى والآباء والأطفال. فمُحظّر على اليهود أن يشاركوا العرب مشاعرهم. وعليهم ألا يفكّروا بمعاناتهم أو بمستقبلهم. إنّهم "الآخر". خشيتنا الآن، أن تأتي هذه "الضربة الحالية" بضربة مضادّة يقوم بها المقاومون الفلسطينيون.

يملي الجميع علينا، من حزب كاديما إلى حزب العمل ومن أولمرت إلى باراك، بألا نلتفت إلى الماضي أو نفكّر به، أي بالواقع الذي شكّله قصف القنابل والرعب والعنف الذي زرعه الإسرائيليون في الحرب اللبنانية الثانية. في تلك الحرب، أي في تموز عام 2006 كان رئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت وأما العلاقات العامة فكانت لحزب العمل. وفي " عملية الحساب" في عام 1993 كان ايهود باراك هو رئيس هيئة الأركان والذي تربّع على عرش الدبلوماسية الإسرائيلية في عام 1996 حين قامت إسرائيل بعملية " عناقيد الغضب". جميع تلك العمليات كانت " ردوداً مناسبة" عُمِّدت بالدم والنار، بحسب سياسيينا، ما أدّى في النهاية إلى ما نشهده الآن.

لقد كان الانفجار متوقعاً. فشهور التهدئة، لم ترفع الحصار عن غزة ولم تردع الإسرائيليين من أن يحرموا الأطفال هناك من أقلامهم وكراساتهم وزادهم. كما لم تمنعهم من أن يحرموا العائلات من الكهرباء والوقود. إنّ أولئك الذين زرعوا المعاناة في نفوس سكّان قطاع غزة وألحقوا بهم شتى أنواع العذابات- بالتأكيد هذا ما جعل سكان القطاع يمارسون ضغوطهم على قيادتهم- اشتركوا في إرهاب الدولة ضدّ المدنيين الفلسطينيين العزّل. فقد زرعت شهور من الإرهاب الإسرائيلي اليأس في قطاع غزة وشجّعت الفلسطينيين الذين جعلوا من الحرية وعداً لهم يتحقّق بالمقاومة ونمّت الإحساس عندهم بأنّ السبيل الوحيدة للخروج من حياة العنف هي توجيه العنف إلى مصدره، ما زاد من معاناة المستوطنين الإسرائيليين في سديروت ودفع بمستوطني عسقلان ونيتيفوت ومن يحيط بهم، إلى من يقعون في دائرة التهديد المباشر.

لزام أن نقول، عندما نسمع صرخات الانتقام تتردد في كل مكان، إن الطائرات التي تقصف غزة لا تضمن السلام والهدوء في سديروت ونيتيفوت وعسقلان. وكذلك القنابل التي تزرع الرعب والموت في أرجاء قطاع غزة في الوقت الذي يتوجه فيه تلامذة المدارس الصغار إلى الشوارع بعد دروسهم الصباحية، لن تأتي بشيء سوى الدمار. إن محرومي هذه الأرض ومضطهديها، سكان غزة المُجوَّعة وما يحيط بها من مستوطنين تحولوا رغماً عنهم إلى "حزام أمان" للاحتلال، إن هم – عرب ويهود – سوى رهائنَ سيهدرها ساسة لا يعرفون من المبادئ الأخلاقية حتى أبجدياتها. ساسة يستغلون أحوال المدنيين المزرية بغية تبرير البؤس والموت الذي يصبّونه على الآخرين. في نهاية هذه الجولة من القتل، ستبدأ محادثات غير مباشرة، وسيتوصل ثعالب السياسة إلى " تفاهمات". لن يتوصلوا إلى اتفاقيات أو حلول، بل إلى تفاهمات مؤقتة تمكّن الأسلحة من أن تتسابق إلى جولة أخرى من العنف. كما ستسمح التفاهمات الغامضة للذين يضعون أيديهم على الزناد أن يمضوا إلى لهيب حرب أخرى يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

طالما نحن رهائن لمن يعدون أنفسهم مسئولين عن أمننا، لن نكون قادرين على أن نعيش بسلام وليس من أمل لنا في حياة آمنة.

شعبا هذا البلد هم رهائن بيد ساسة الموت وتجاره. رغم ذلك، ثمة تمييز بين الرهائن أنفسهم. فحياة العربي تُعدّ أرخص من حياة اليهودي. لكنّ هذا لا يعني أن ليس هناك من أرواح يهودية رخيصة. وليس مصادفة أن يكون فقراء الشعبين المهمّشون والمبعدون و"الأرخص" ثمناً من منظورات الحكام، هم من يُرسل بهم كرهائن وحيوات مهدورة. إن الحرب التي يخوضها الساسة هي حرب غادرة يروّجها تجار الموت والنخبة وأصحاب الامتيازات محصّنو المواقع. هذا في الوقت الذي يَهدرُ فيه الشعبان حيواتهم من أجلهم.