عادت الجرافات سريعة وقامت بهدم وجرف أساسات البيت الذي حاول العديد من اليافاويين بناءه فجر اليوم الذي تلا عملية هدم بيت عائلة العداسي في يافا. هذه الجرافة هي نفسها التي قامت فيما بعد، وخلال فترة قصيرة بهدم بيت موسى دكة لينال بذلك نفس المصير الذي تلقته عائلة العداسي.
ففي التاسعة والنصف من صباح 17.1.2010 نسف بيت موسى دكة، بعد أن أحاطت بيته قوات كبيرة من رجال الأمن، الذين تعاملوا معه وأطفاله بعنف شديد. الاسلحة وقوى "اليسام" التفت حول بيت عائلة دكة لتقوم بتأديب كل من يجرب الاعتراض أو عرقلة عملية الهدم. وقامت الشرطة أيضا بتحويط البيارة لتتحول بذلك بيارة دكة إلى معسكر منع الدخول والخروج منه.
كان هناك بيوت وكانت هناك حياة إلى ان قامت الجرافة المجنزرة بالتمكن وبالهيمنة على المكان لتقرر بذلك تغيير مسار حياة هذه العائلات.
تهجير قسري
ان حال نكبة يافا هو من أشد الأحوال قساوة بين المدن المختلطة، ففي عام 1948 دمرت أجزاء كبيرة من المدينة، فتم احتلالها واغلق الحيز العام على السكان، وجرى سجنهم الفعلي بعد عام 48 حتى تم بذلك الاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم. لاحقا، في الستينيات تحولت يافا إلى مدينة للمهاجرين اليهود، الذين وطّنتهم الدولة في بيوت الفلسطينيين، أو جعلتهم يتقاسمون معهم البيت نفسه.
منذ منتصف الستينيات حتى منتصف الثمانينيات، اتبعت في يافا سياسة اهمال واخلاء موجهة وهدم لبيوت بادرت إليها المؤسسات العامة كالبلدية وعميدار وحلاميش بالاضافة إلى مديرية دائرة أراضي إسرائيل التي استولت عام 1948 على البيوت. كانت البلدية تخطط لبناء أحياء سكنية نظيفة وجميلة في حي العجمي والجبلية، ولهذا كانت تنوي إخراج سكان "الإحياء القديمة" منها وتفريغها. خرج اليهود الذين وجدوا مأوى آخر، أما العرب فرفضوا الإخلاء رغم كل الاهمال المتعمد، ورغم كل التضييق الذي منعهم من القيام بعمليات بناء إضافية لأبسط الأمور. مثل النوافذ والمخارج، ومنعت عمليات الترميم القانونية تماما.
حال البيارة وحال دكة
حي بيارة دكة في يافا، يقطنه قرابة الالف مواطن عربي، حيث لا يحظى أفراده بأي خدمات من قبل بلدية تل أبيب يافا. إلى أن أصبح اهمال الحي ونسيانه من قبل البلدية اشبه بقنبلة موقوتة.
عائلات تعاني من تضييق الخناق والملاحقة وكبح التوسع والبناء ومصادرة الأراضي. وهي تعيش في ظروف مزرية، هكذا حال الحي الذي هو أشبه بمخيمات لاجئين، تقابله إحياء فخمة وفنادق سياحية للسياح واليهود الجدد.
في الآونة الأخيرة أصدرت البلدية أوامر حجز ضد هؤلاء المواطنين تطالبهم بدفع ضرائب "ارنونا" ومستحقات مياه بمبالغ طائلة، بحيث وصلت لدى بعض العائلات إلى مئات آلاف الشواقل، وذلك على الرغم من عدم وجود عدادات مياه، وتحديد المبالغ بشكل تقديري، كذلك الأمر بالنسبة لضرائب الارنونا.
وبالمقابل تفتقر تلك المنطقة لشبكات الصرف الصحي، وتتدفق مياه المجاري نحو الشوارع فبات مشهد الأمراض والمكاره البيئية والصحية عاديا ومألوفا جدا لكل من يمر في هذا الحي.
معظم عائلات حي أو بيارة دكة يقطن في منازل لا تتعدى مساحتها عشرات الامتار، في ظروف غير إنسانية، حيث تعاني من الاضطهاد اليومي والتمييز والعنصرية بأساليبها "الجميلة" والذكية. فالحي بعيد ومعزول وعمق ديون البلدية والحجوزات التي فرضتها صارت أكبر من المأساة.
يقول عزيز دكة من نفس الحي:
"مأساتنا مضاعفة، فمن ناحية تعيش مئات العائلات العربية في ظروف مزرية، ومن ناحية أخرى يتم مطالبتنا بدفع اثمان مياه وضرائب ارنونا والمبالغ تصل إلى مئات آلاف الشواقل لبعض العائلات، كل ذلك دون ان نحصل على أي خدمات تذكر من البلدية فبالكاد تجمع النفايات بين الحين والآخر، وعليه لا نفهم المبرر وراء هذه الديون".
ويضيف: "نحن طالبنا البلدية بتركيب عدادات مياه للمنازل لكن لا حياة لمن تنادي، فجميع الديون عن اثمان المياه تقديرية ولا تحسب بشكل دقيق كونه لا يوجد عدادات مياه".
وأيضا: "لا يكفي أن أهالي الحي يعيشون في ظروف مزرية وصعبة ، وبأنهم لا يحصلون على أي خدمات، ليتم أيضا مطاردتهم ومطالبتهم بدفع مبالغ طائلة ثمنا للمياه، على الرغم من انعدام وجود عدادات مياه، كما يتم مطالبتهم دفع مبالغ طائلة عن ضرائب الارنونا والأغلبية الساحقة من المنازل مساحاتها لا تتعدى عشرات الامتار. إن هذه تعد ممارسة تعسفية وغبنا بحق سكان الحي الذين طالبوا البلدية مرارا وتكرارا بتركيب عدادات مياه للمنازل وتقديم الخدمات لكن دون جدوى، والغريب في الأمر، بان قسم الجباية اشترط تركيب عدادات مياه بدفع الديون أولا الأمر الذي يقبله العقل".
لقد صرت مشردا يتحدث موسى دكة الذي تم هدم بيته مؤخرا ويقول:
"لا أفهم كيف يريدون اخراجنا من أرضنا بحجة ترميم المنطقة، لمن معد هذا الترميم؟ أنا شخصيا لم أعد أفهم مخططاتهم، هم يخططون ونحن نطرد مثل الصراصير، لم أعد أخشى شئيا فقد فقدت كل شيء ولم يعد لدي احساس أو طعم للتحدث ولا فائدة من عمل أي شيء".
ويضيف: "إن الإسرائيليين لا يريدون الفلسطينيين في يافا، وذريعة البناء غير المرخص ما هي إلا حجج واهية وسلاح لمحاربة وجودنا، إن القضية ليست فردية بل هي قضية العرب في المدن المختلطة، فنحن نشيد منازلنا فوق أراضي آبائنا وأجدادنا وما نتعرض له أشبه بتطهير عرقي".
مشروع استثماري في السوق الحرة!
إنّ وضع يافا "مدينة مختلطة" هو وضع مؤقّت يُفضي إلى تحويلها إلى "مدينة عبريّة" من جميع النواحي وها هما البناء والتطوير يثبتان مرحلية. ياسمين ظاهر باحثة أعدت تقريرا في الموضوع تشير "إنّ القوى المنظورة التطوير والسكن تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على العنف داخل المجتمع وبين أبنائه؛ إذ يقبع السكّان العرب المحلّيّون تحت طائلة تفتيت الحيّز العام، فإلى ما قبل سنوات ماضية قليلة، نجح الناس في صناعة إستراتيجيات وآليّات بسيطة لاستعادة هذا الحيّز والاستحواذ عليه والشعور بالانتماء إليه من خلال الوجود فيه، وترتيبه أماكن للعب الأطفال، وحتّى إقامة المآتم والأعراس فيه أحيانًا.
أمّا اليوم، فالبناء مستمرّ بين البيوت وإلى جانبها، يمنع ويقطع هذه الاستمراريّة، ممّا يخنق الأطفال والشباب. إلى هذا أضِفْ شُحَّ الفعّاليّات الاجتماعيّة والثقافيّة والتربويّة في يافا، وانعدامَ المدينيّة التامّ، ليتحوّل عنف الشرطة ضدّ الشباب إلى مَثَلهم الأعلى، يقلّدونه في ما بينهم. إنّ الشباب يرون نمو وتتطوّر المدينة بهذا الشكل الذي يُقْصيهم ويتركهم دون وسائل للعيش فيها، وبدون عمل كريم وحياة محترمة، تتركهم لليأس والاحباط، فينشأ جيل جديد يمتثل للعنف كأداة للنجاة من المأزق العامّ أو للتعبير عن غضبه وبغضه. هذا الجيل لم يعد من السهل السيطرة عليه. العنف الداخليّ يتجلّى بازدياد حالات الاعتداء على النساء في العائلات، والسرقات في الشارع، وعدم الشعور بالأمن، والتسرّب من المدارس، والتشويه في اللغة والثقافة، والنسبة المرتفعة من الشباب الذين دخلوا السجن على الأقلّ مرّة واحدة في حياتهم حتّى سنّ الثلاثين.
إنّها عمليّة نظيفة جدًّا، تخلو من الكثير من الضجيج والانفعالات، ومع الكثير من غبار البيوت المرتفعة وتاريخ المكان المدفون أسفلها. البلدوزرات تأتي لاحقًا، بعد أن تشقّ قوّةُ السوق الحرّة الطريقَ، وتنظّف سياسة البلديّة ما تبقّى من مواطنين قاوموا الترحيل حتّى دون سياسة.
لا يمكن فكّ الارتباط الوثيق الصلة بين مشروع التهويد في "المدن المختلطة" جميعها والمشاريع الاستثماريّة للسوق الحرّة. إنّها علاقة وثيقة، ونستطيع أن نقول إنّها تاريخيّة في ما يخصّ بلادنا على وجه التحديد، لا السياسة العالميّة فحسْب. من الواضح أنّ العرب الفلسطينيّين ليسوا القوة الشرائيّة التي تستهدفها هذه الشركات الضخمة. ليس هذا فحسْب، بل إنّ مشاريع البناء والتخطيط هذه تضرّ بهم بالدرجة الأولى وتحملهم على الهجرة -وإن كانت أحيانًا هجرة صامتة وغير مرئيّة-. من جهة، هي تمنع استمراريّة الحياة الطبيعيّة (البناء والسكن)، وذلك أنّها تعرض بيوتًا للسوق العالميّة ليس في مستطاع ابن يافا حتّى أن يحلم بمنافستها؛ ومن جهة أخرى، هي تواصل بحثها بعدسة مكبّرة عن القطعة أرض للشراء أو البيع بغية الاستيلاء عليها، ليصبح الإغراء أكبر من إمكانيّة المقاومة، ولا سيّما على ضوء تدهور الأوضاع الاقتصاديّة لدى الطبقة الوسطى وطبقة العمّال. ارتفاع أسعار البيوت والأراضي يعني ارتفاعًا معيشيًّا يتعدّى أحيانًا الضِّعْف خلال بضع سنوات، ليفضّل سكّان يافا اللجوءَ -مرّة أخرى – إلى مدن يجري فيها البناء والتطوير بوتيرة أبطأ (مثل اللدّ والرملة) ليحتمي فيها السكّان من ظل التطوير. ونحن لا نجافي الحقيقة، عندما نشير أنّ البلديّة والدوائر الحكوميّة جميعها تفعل ما في وسعها لتساعد "الاستثمار" هذا، فمنذ أربع سنوات أو خمس هناك خمسمئة بيت مهدَّدة بالهدم في يافا".
إنّ "الاستثمار"، و" التطوير"، و"البناء"، و"تعزيز السكان"، هي مصطلحات الخطاب المرئيّ والمحكيّ لسياسة السوق الحرّة والتهويد المستمرّ الذي يدور حول "الجماليّات"، و"مكمّلات الحياة"، و "الأمن الشخصيّ والعائليّ".
- تصوير يهوديت ايلاني